حالة حصار
جماليات الحقيقة
ليس جديداً القول إن قدرة الشعر على قول الحقيقة تحتمل أكثر من بُعد. لكن يمكن القول في حالة حصار ، عمل محمود درويش الأخير، إنه يحتمل بعداً مختلفاً نوعاً ما، يتمثل في أخلاقية القول، أو جدواه الوظيفية أو العملية، ولا سيما في صراع معروف في تباين خطابه وتعدده.
هذا البعد لم يغبْ عن أشعار محمود درويش السابقة. بل أستطيع القول إنه سمة تتردد في تجربته منذ البداية، بدايةً من تعرية الشجر من الغصون الزائفة، وصولاً إلى الاعتراف بأن الشاعر غالباً ما يكذب: أولاً، لأنه يستجيب لهذا القدْر من المبالغات والبلاغة في التعبير عما لا ضرورة له؛ وثانياً، لأنه يستسلم لهذا الكم الهائل من الثرثرة الكبيرة. ولا شك في أن قارئاً لـ كتاب الشعر الفرنسي لبول شاوول يتذكر أن صفة مثل هذه إنما قورنت بأشعار أراغون؛ وربما هو يوافقني أن هذا القدْر من الثرثرة هو صفة تغلب على شعراء العربية في معظمهم بما يدعو للتساؤل حقاً!
هذه الرؤية التي هي نقدية إلى هذا الحد الذي تتكئ فيه على مُنجَز يقارب الخمسين عاماً ليست غائبة عن قصائد درويش إذاً. لكنها – والحق يقال – لا تشكل رؤية شعرية بارزة عنده، لكي يتجاوز المرء شعراء مثل سعدي يوسف وممدوح عدوان ومريد البرغوثي، لسبب يخص هذه الحقيقة، أو لسبب يخص كيفية صوغها. كما أن محمود درويش هو ما هو لشيء آخر قد يكون أكثر أهمية يتعلق بأعمال أخرى، مثل غنائياته الأولى، و ورد أقل ، و أحد عشر كوكباً ، وحتى جدارية .
لكنْ لا أريد أن أبتعد الآن عن هذه المغامرة الإبداعية في حالة حصار ، وخاصة أن لدرويش ما يضيفه في هذا الجدل الواضح بين مغامرة القول وفنيَّته، أو جماليته بالأحرى. ف قد يتمثل هذا الجدل في الحقيقة أو في قولها؛ وهذا قد يستدعي شيئاً آخر هو الواقع. وربما لا أكون مبسِّطاً للأمور إذا ما اعتبرت أن الواقع الذي ينطلق منه الشاعر هو واقع شعري بطبيعته، محيلاً إلى تأمل انزياحي للحياة، على افتراض أن تقنيات الشعر هي تحصيل لا خلاف عليه، لدى محمود درويش على الأقل.